سورة الروم - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الروم)


        


هذه السورة مكية، قال ابن عطية وغيره، بلا خلاف. وقال الزمخشري: إلا قوله: {فسبحان الله}. وسبب نزولها أن كسرى بعث جيشاً إلى الروم، وأمر عليهم رجلاً، واختلف النقلة في اسمه؛ فسار إليهم بأهل فارس، وظفر وقتل وخرب وقطع زيتونهم، وكان التقاؤهم بأذرعات وبصرى، وكان قد بعث قيصر رجلاً أميراً على الروم. وقال مجاهد: التقت بالجزيرة. وقال السدي: بأرض الأردن وفلسطين، فشق ذلك على المسلمين لكونهم مع الروم أهل الكتاب، وفرح بذلك المشركون لكونهم مع المجوس ليسوا بأهل كتاب. وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الروم {سيغلبون في بضع سنين}.
ونزلت أوائل الروم، فصاح أبو بكر بها في نواحي مكة: {الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين}. فقال ناس من مشركي قريش: زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارساً في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟ فقال: بلى، وذلك قبل تحريم الرهان. فاتفقوا أن جعلوا بضع سنين وثلاث قلائص، وأخبر أبو بكر رسول الله بذلك فقال: «هلا اختطبت؟ فارجع فزدهم في الأجل والرهان» فجعلوا القلائص مائة، والأجل تسعة أعوام. فظهرت الروم على فارس في السنة السابعة، وكان ممن راهن أبيّ بن خلف. فلما أراد أبو بكر الهجرة، طلب منه أبيّ كفيلاً بالخطر إن غلبت، فكفل به ابنه عبد الرحمن. فلما أراد أبيّ الخروج إلى أحد، طلبه عبد الرحمن بالكفيل، فأعطاه كفيلاً ومات أبيّ من جرح جرحه النبي صلى الله عليه وسلم. وظهر الروم على فارس يوم الحديبية. وقيل: كان النصر يوم بدر للفريقين، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبي، وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: «تصدق به». وسبب ظهور الروم، أن كسرى بعث إلى شهريزان، وهو الذي ولاه على محاربة الروم، أن اقتل أخاك فرّخان لمقالة قالها، وهي قوله: لقد رأيتني جالساً على سرير كسرى، فلم يقتله. فبعث إلى فارس أني عزلت شهريزان ووليت أخاه فرّخان، وكتب إليه: إذا ولي، أن يقتل أخاه شهريزان، فأراد قتله، فأخرج له شهريزان ثلاث صحائف من كسرى يأمره بقتل أخيه فرّخان. قال: وراجعته في أمرك مراراً، ثم تقتلني بكتاب واحد؟ فرد الملك إلى أخيه. وكتب شهريزان إلى قيصر ملك الروم، فتعاونا على كسرى، فغلبت الروم فارس، وجاء الخبر، ففرح المسلمون. وكان ذلك من الآيات البينات الشاهدة بصحة النبوة، وأن القرآن من عند الله، لأنها إيتاء من علم الغيب الذي لا يعلمه إلاّ الله.
وقرأ علي، وأبو سعيد الخدري، وابن عباس، وابن عمر، ومعاوية بن قرة، والحسن: {غلبت الروم}: مبنياً للفاعل، {سيغلبون}: مبنياً للمفعول؛ والجمهور: مبنياً للمفعول، سيغلبون: مبنياً للفاعل.
وتأويل ذلك على ما فسره ابن عمران: الروم غلبت على أدنى ريف الشأم، يعنى: بالريف السواد. وجاء كذلك عن عثمان، وتأوله أبو حاتم على أن الروم غلبت يوم بدر، فعز ذلك على كفار قريش، وسر المؤمنون، وبشر الله عباده بأنهم سيغلبون في بضع سنين. انتهى. فيكون قد أخبر عن الروم بأنهم قد غلبوا، وبأنهم سيغلبون، فيكون غلبهم مرتين. قال ابن عطية: والقراءة بضم الغين أصح. وأجمع الناس على سيغلبون بفتح الياء، يراد به الروم. وروي عن ابن عمر أنه قرأ سيغلبون بضم الياء، وفي هذه القراءة قلب المعنى الذي تظاهرت به الروايات. انتهى. وقوله: وأجمعوا، ليس كذلك. ألا ترى أن الذين قرأوا غلبت بفتح الغين هم الذين قرأوا سيغلبون بضم الياء وفتح اللام، وليست هذه مخصوصة بابن عمر؟ وقرأ الجمهور: غلبهم، بفتح الغين واللام: وعلي، وابن عمر، ومعاوية بن قرة: بإسكانها؛ والقياس عن ابن عمر: وغلابهم، على وزن كتاب. والروم: طائفة من النصارى، وأدنى الأرض: أقربهما: فإن كانت الواقعة في أذرعات، فهي أدنى الأرض بالنظر إلى مكة، وهي التي ذكرها امرؤ القيس في قوله:
تنوّرتها من أذرعات وأهلها *** بيثرب أدنى دارها نظر عال
وإن كانت بالجزيرة، فهي أدنى بالنظر إلى أرض كسرى. فإن كانت بالاردن، فهي أدنى بالنظر إلى أرض الروم. وقرأ الكلبي: {في أدنى الأرض}، وتقدم الكلام في مدلول البضع باعتبار القراءتين. ففي غلبت، بضم الغين، يكون مضافاً للمفعول؛ وبالفتح، يكون مضافاً للفاعل، ويكون المعنى: سيغلبهم المسلمون في بضع سنين، عند انقضاء هذه المدة التي هي أقصى مدلول البضع.
أخذ المسلمون في جهاد الروم، وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يحكي عن أبي الحكم بن برجان أنه استخرج من قوله تعالى: {الم غلبت الروم} إلى قوله: {في بضع سنين}، افتتاح المسلمين بيت المقدس، معيناً زمانه ويومه، وكان إذ ذاك بيت المقدس قد غلبت عليه النصارى، وأن ابن برجان مات قبل الوقت الذي كان عينه للفتح، وأنه بعد موته بزمان افتتحه المسلمون في الوقت الذي عينه أبو الحكم. وكان أبو جعفر يعتقد في أبي الحكم هذا، أنه كان يطلع على أشياء من المغيبات يستخرجها من كتاب الله.
{لله الأمر}: أي إنفاذ الأحكام وتصريفها على ما يريد. وقرأ الجمهور: {من قبل ومن بعد}، بضمهما: أي من قبل غلبة الروم ومن بعدها. ولما كانا مضافين إلى معرفة، وحذفت بنيا على الضم، والكلام على ذلك مذكور في علم النحو. وقرأ أبو السمال، والجحدري، وعون العقيلي: من قبل ومن بعد، بالكسر والتنوين فيهما. قال الزمخشري: على الجر من غير تقدير مضاف إليه واقتطاعه، كأنه قيل: قبلاً وبعداً، بمعنى أولاً وآخراً. انتهى.
وقال ابن عطية: ومن العرب من يقول: من قبل ومن بعد، بالخفض والتنوين. قال الفراء: ويجوز ترك التنوين، فيبقى كما هو في الإضافة، وإن حذف المضاف. انتهى. وأنكر النحاس ما قاله الفراء ورده، وقال الفراء في كتابه: (في القرآن) أشياء كثيرة من الغلط، منها: أنه زعم أنه يجوز من قبل ومن بعد، وإنما يجوز من قبل ومن بعد على أنهما نكرتان، والمعنى: من متقدم ومن متأخر. وحكى الكسائي عن بعض بني أسد: لله الأمر من قبل ومن بعد الأول مخفوض منوّن، والثاني مضموم بلا تنوين. والظاهر أن يومئذ ظرف {يفرح المؤمنون}، وعلى هذا المعنى فسره المفسرون.
وقيل: {ويومئذ} عطف على: {من قبل ومن بعد}، كأنه حصر الأزمنة الثلاثة: الماضي والمستقبل والحال، ثم ابتدأ الإخبار بفرح المؤمنين بالنصر. و{بنصر الله}: أي الروم على فارس، أو المسلمين على عدوهم، أو في أن صدق ما قال الرسول من أن الروم ستغلب فارس، أو في أن يسلط بعض الظالمين على بعض، حتى تفانوا وتناكصوا، احتمالات. وفي الحديث: «فارس نطحة أو نطحتان، ثم لا فارس بعدها أبداً، والروم ذات القرون، كلما ذهب قرن خلف قرن إلى آخر الأبد». وقال ابن عباس: يوم بدر كانت هزيمة عبدة الأوثان وعبدة النيران، وقال معناه أبو سعيد الخدري، وقيل: ورد الخبر يوم الحديبية بوفاة كسرى، فسر المسلمون بحرب المشركين، ولموت عدو لهم في الأرض متمكن. وهو {العزيز} بانتقامه من أعدائه، {الرحيم} لأوليائه. وانتصب {وعد الله} على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي تقدمت، وهو قوله: {سيغلبون}، وقوله: {يفرح المؤمنون}. {ولكن أكثر الناس} الكفار من قريش وغيرهم، {لا يعلمون}: نفي عنهم العلم النافع للآخرة، وقد أثبت لهم العلم بأحوال الدنيا. قيل: والمعنى لا يعلمون أن الأمور من عند الله، وأن وعده لا يخلفه، وأن ما يورده بعينه، صلى الله عليه وسلم، حق. {يعلمون ظاهراً}: أي بيناً، أي ما أدّته إليهم حواسهم، فكأن علومهم إنما هي علوم البهائم. وقال ابن عباس، والحسن، والجمهور: معناه ما فيه الظهور والعلوّ في الدنيا من اتقان الصناعات والمباني ومظان كسب المال والفلاحات، ونحو هذا. وقالت فرقة: معناه ذاهباً زائلاً، أي يعلمون أمور الدنيا التي لا بقاء لها ولا عاقبة. وقال الهذلي:
وعيرها الواشون أني أحبها *** وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
أي: زائل. وقال ابن جبير: {ظاهراً}، أي يعلمون من قبل الكهنة مما يسترقه الشياطين. وقال الرماني: كل ما يعلم بأوائل الرؤية فهو الظاهر، وما يعلم بدليل العقل فهو الباطن. وقال الزمخشري: {يعلمون} بدل من قول: {لا يعلمون}، وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه، وجعله بحيث يقوم مقامه ويسد مسده، لنعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا.
وقوله: {ظاهراً من الحياة الدنيا}: يفيد أن للدنيا ظاهراً وباطناً، فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها، وباطنها وحقيقتها أنها مجاز للآخرة، يتزود إليها منها بالطاعة والأعمال الصالحة؛ وهم الثانية توكيد لهم الأولى، أو مبتدأ. وفي إظهارهم على أي الوجهين، كانت تنبيه على غفلتهم التي صاروا ملتبسين بها، لا ينفكون عنها. و{في أنفسهم}: معمول ليتفكروا، إما على تقدير مضاف، أي في خلق أنفسهم ليخرجوا من الغفلة، فيعلموا أنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا فقط، ويستدلوا بذلك على الخالق المخترع.
ثم أخبر عقب هذا بأن الحق هو السبب في خلق السموات والأرض؛ وأما على أن يكون {في أنفسهم} ظرفاً للفكرة في خلق السموات والأرض، فيكون {في أنفسهم} توكيداً لقوله: {يتفكرون}، كما تقول: أبصر بعينك واسمع بأدنك. وقال الزمخشري: في هذا الوجه كأنه قال: أو لم يحدثوا التفكر في أنفسهم؟ أي في قلوبهم الفارغة من الفكر. والفكر لا يكون إلا في القلوب، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين، كقولك: اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك. وقال أيضاً: يكون صلة المتفكر، كقولك: تفكر في الأمر وأجال فكره. و{ما خلق الله} متعلق بالقول المحذوف، معناه: أو لم يتفكروا، فيقولوا هذا القول؟ وقيل معناه: فيعلموا، لأن في الكلام دليلاً عليه. انتهى. والدليل هو قوله: {أو لم يتفكروا}. وقيل: {أو لم يتفكروا} متصل بما بعده، ومثله: ثم {يتفكروا ما بصاحبهم من جنة} ومثله: {وظنوا ما لهم من محيص} فيكون في بمعنى الباء، ثم {يتفكروا ما بصاحبهم من}، كأنه قال: أو لم يتفكروا بقلوبهم فيعلموا. انتهى. ويجوز أن يكون تفكروا هنا معلقة، ومتعلقها الجملة من قوله: {ما خلق} إلى آخرها. و{في أنفسهم}: ظرف على سبيل التأكيد، لأن الفكر لا يكون إلا في النفس، كما أن الكتابة لا تكون إلا باليد. و{بالحق}: في موضع الحال، أي وهي ملتبسة بالحق مقترنة به، وبتقدير أجل مسمى لا بد لها أن تنتهي إليه وهو: قيام الساعة، ووقت الحساب والثواب والعقاب. ألا ترى إلى قوله: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} كيف سمى تركهم غير راجعين إليه عبثاً؟ والمراد بلقاء ربهم: الأجل المسمى.
وقال ابن عطية: {إلا بالحق}، أي بسبب المنافع التي هي حق واجب، يريد من الدلالة عليه والعبادة له دون فتور، والانتصار للعبرة ومنافع الإرفاق وغير ذلك. {وأجل} عطف على الحق، أي وبأجل مسمى، وهو يوم القيامة. ففي الآية إشارة إلى البعث والنشور وفساد بنية هذا العالم. ثم أخبر عن كثير من الناس أنهم كفروا بذلك المعنى، فعبر عنها بلقاء الله، لأن لقاء الله هو عظيم الأمر، فيه النجاة والهلكة. انتهى.
وقال أبو عبد الله الرازي: قدم هنا دلائل الأنفس على دلائل الآفاق، وفي: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم} دلائل الآفاق على دلائل الأنفس، وحكمة ذلك أن المفيد يذكر الفائدة على وجه يختارها، فإن فهمت، وإلا انتقل إلى الأبين. والمستفيد يفهم أولاً الأبين، ثم يرتقي إلى الأخفى. وفي {أو لم يتفكروا} بفعل مسند إلى السامع، فبدأ بما يفهم أولاً، ثم ارتقى إليه ثانياً. وفي {سنريهم} أسند إلى المفيد، فذكر أولاً، الآفاق، فإن لم يفهموا، فالأنفس، إذ لا ذهول للإنسان عن دلائلها، بخلاف دلائل الآفاق، لأنه قد يذهل عنها، وهذا مراعي في {الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً} الآية. بدأ بأحوال الأنفس، ثم بدلائل الآفاق. وقال أيضاً هنا: {وإن كثيراً}، {وقبل}، {ولكن أكثر الناس}، وذلك أن هنا ذكر كثيراً بعد ذكر الدلائل الواضحة، وهما: {أو لم يتفكروا في أنفسهم}، و{ما خلق الله}. والإيمان بعد الدلائل أكثر من الإيمان قبلها، فبعد ذكر الدليل، لا بد أن يؤمن من ذلك الأكثر جمع، فلا يبقى الأكثر. انتهى، وفيه تلخيص. ولا يتم كلامه الأول إلا إذا جعل {في أنفسهم} محلاً للتفكر، وجعل {ما خلق} أيضاً محلاً ثانياً.
{أو لم يسيروا في الأرض}: هذا تقرير توبيخ، أي قد ساروا ونظروا إلى ما حمل ممن كان قبلهم من مكذبي الرسل، ووصف حالهم من الشدة وإثارة الأرض وعمارتها، وأنهم أقوى منهم في ذلك. قال مجاهد: {وأثاروا الأرض}: حرثوها. وقال الفراء: قلبوها للزراعة. وقال غيرهما: قلبوا وجه الأرض لاستنباط المياه، واستخراج المعادن، وإلقاء البذر فيها للزراعة؛ والإثارة: تحريك الشيء حتى يرتفع ترابه. وقرأ أبو جعفر: وآثاروا الأرض، بمدة بعد الهمزة. وقال ابن مجاهد: ليس بشيء، وخرجه أبو الفتح على الإشباع كقوله:
ومن ذم الزمان بمنتزاح ***
وقال: من ضرورة الشعر، ولا يجيء في القرآن. وقرأ أبو حيوة: وآثروا من الإثرة، وهو الاستبداد بالشيء. وقرئ: وأثروا الأرض: أي أبقوا عنها آثاراً. {وعمروها}: من العمارة، أي بقاؤهم فيها أكثر من بقاء هؤلاء، أو من العمران: أي سكنوا فيها، أو من العمارة. قال الزمخشري: {أكثر مما عمروها}: من عمارة أهل مكة، وأهل مكة أهل واد غير ذي زرع، ما لهم إثارة الأرض أصلاً، ولا عمارة لهم رأساً، فما هو إلاّ تهكم بهم وتضعيف حالهم في دنياهم، لأن معظم ما يستظهر به أهل الدنيا ويتباهون به أمر الدهقنة، وهم أيضاً ضعاف القوى. {فما كان الله ليظلمهم}: قبله محذوف، أي فكذبوهم فأهلكوا. وقرأ الحرميان، وأبو عمرو: {ثم كان عاقبة} بالرفع اسماً لكان، وخبرها {السوأى}، أو هو تأنيث الأسوإ، أفعل من السوء. {أن كذبوا}: مفعول من أجله متعلق بالخبر، لا بأساء، وإلا كان فيه الفصل بين الصلة ومتعلقها بالخبر، وهو لا يجوز؛ والمعنى: ثم كان عاقبتهم، فوضع المظهر موضع المضمر. {السوأى}: أي العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة، وهي جهنم. ويجوز أن تكون {السوأى} مصدراً على وزن فعلى، كالرجعى، وتكون خبراً أيضاً.
ويجوز أن تكون مفعولاً بأساء بمعنى اقترفوا، وصفة مصدر محذوف، أي الإساءة السوأى، ويكون خبر كان {أن كذبوا}. وقرأ الأعمش والحسن: السوى، بإبدال الهمزة واواً وإدغام الواو فيها، كقراءة من قرأ: {السوء} بالإدغام في يوسف. وقرأ ابن مسعود: السوء، بالتذكير. وقرأ الكوفيون وابن عامر: {عاقبة}، بالنصب، خبر كان، والاسم السوأى، أو السوء مفعول، وكذبوا الاسم. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون أن بمعنى: أي تفسير الإساءة التكذيب والاستهزاء، كانت في بمعنى القول، نحو: نادى وكتب. ووجه آخر، وهو أن يكون {أساؤا السوأى} بمعنى: اقترفوا الخطيئة التي هي أسوأ الخطايات، {وأن كذبوا} عطف بيان لها، وخبر كان محذوف، كما يحذف جواب لما ولو إرادة الإبهام. انتهى. وكون أن هنا حرف تفسير متكلف جداً. وأما قول الخطايات فكذا هو في النسخة التي طالعناها، جمع جمع تكسير بالألف والتاء، وذلك لا ينقاس، إنما يقتصر فيه على مورد السماع، ولا يبعد أن يكون زيادة التاء في الخطايات من الناسخ. وأما قوله: {وأن كذبوا} عطف بيان لها، أي للسوأى، وخبر كان محذوف الخ. فهذا فهم أعجمي، لأن الكلام مستقل في غاية الحسن بلا حذف، فيتكلف له محذوفاً يدل عليه دليل. وأصحابنا لا يجيزون حذف خبر كان وأخواتها، لا اقتصاراً ولا اختصاراً، إلا إن ورد منه شيء، فلا ينقاس عليه.
وقرأ عبد الله وطلحة: يبدئ، بضم الياء وكسر الدال؛ والجمهور: بفتحها؛ والأبوان: يرجعون، بياء الغيبة؛ والجمهور: بتاء الخطاب، أي إلى ثوابه وعقابه؛ والجمهور: يبلس، بكسر اللام؛ وعلي والسلمي: بفتحها، من أبلسه إذا أسكته؛ والجمهور: ولم يكن، بالياء؛ وخارجة والأريس، كلاهما عن نافع، وابن سنان عن أبي جعفر، والأنطاكي عن شيبة: بتاء التأنيث. {من شركائهم}: من الذين عبدوهم من دون الله، وهي الأوثان، وأضيفوا إليهم لأنهم أشركوهم في أموالهم، وقيل: لأنهم اتخذوها بزعمهم شركاء لله. وقال مقاتل: المراد بهم الملائكة شفعاء لله، كما زعموا: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} {وكانوا} معناه: ويكون عند معاينتهم أمر الله وفساد حال الأصنام عبر بالماضي، لتيقن الأمر وصحة وقوعه. وكتب السوأى بالألف قبل الياء، كما كتبوا علماء بني إسرائيل بواو قبل الألف والتنوين في {يومئذ}، تنوين عوض من الجملة المحذوفة، أي {ويوم تقوم الساعة}، يوم إذ {يبلس المجرمون}. والضمير في {يتفرقون} للمسلمين والكافرين، لدلالة ما بعده عليه. قال الزمخشري: ويظهر أنه عائد على ما قبله، إذ قبله: {الله يبدأ الخلق ثم يعيده}. قال قتادة: هي فرقة، لا اجتماع بعدها.
{في روضة}، الروضة، الأرض ذات النبات والماء، وفي المثل: أحسن من بيضة، يريدون: بيض النعامة، والروضة مما تعجب العرب، وقد أكثروا من مدحها في أشعارهم. {يحبرون}: يسرون. حبره: سره سروراً، وتهلل له وجهه وظهر له أثره.
يحبر بالضم، حبراً وحبرة وحبوراً، وفي المثل: امتلأت بيوتهم حبرة فهم ينتظرون العبرة. وحكى الكسائي: حبرته: أكرمته ونعمته. وقال علي بن سليمان: هو من قولهم: على أسنانه حبرة، أي أثر، أي يسير عليهم أثر النعمة. وقيل: من التحبير، وهو التحسين، أي يحسنون. ويقال: فلان حسن الحبر والسبر، بالفتح، إذا كان جميلاً حسن الهيئة. وقال ابن عباس، والضحاك، ومجاهد: يكرمون. وقال يحيى بن أبي كثير، والأوزاعي، ووكيع: يسمعون الأغاني. وقال أبو بكر، وابن عباس: يتوجون على رؤوسهم. وقال ابن كيسان: يحلون. ومعنى {محضرون}: مجموعون له، لا يغيب أحد منهم عنه بقوله: {وما هم بخارجين منها} وجاء في روضة منكراً وفي العذاب معرفاً. قال الزمخشري: والتنكير لإبهام أمرها وتفخيمه، وجاء يحبرون بالفعل المضارع لاستعماله للتجدد، لأنهم كل ساعة يأتيهم ما يسرون به من متجددات الملاذ وأنواعها المختلفة. وجاء {محضرون} باسم الفاعل لاستعماله للثبوت، فهم إذا دخلوا العذاب يبقون فيه محضرين، فهو وصف لا ذم لهم.


لما بين تعالى عظيم قدرته في خلق السموات والأرض بالحق، وهو حالة ابتداء العالم، وفي مصيرهم إلى الجنة والنار، وهي حالة الانتهاء، أمر تعالى بتنزيهه من كل سوء. والظاهر أنه أمر عباده بتنزيهه في هذه الأوقات، لما يتجدد فيها من النعم. ويحتمل أن يكون كناية عن استغراق زمان العبد، وهو أن يكون ذاكراً ربه، واصفه بما يجب له على كل حال.
وقال الزمخشري: لما ذكر الوعد والوعيد، أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد وينجي من الوعيد. وقيل: المراد هنا بالتسبيح: الصلاة. فعن ابن عباس وقتادة: المغرب والصبح والعصر والظهر، وأما العشاء ففي قوله: {وزُلَفاً من الليل} وعن ابن عباس: الخمس، وجعل {حين تمسون} شاملاً للمغرب والعشاء. {وله الحمد في السموات والأرض}: اعتراض بين الوقتين، ومعناه: أن الحمد واجب على أهل السموات وأهل الأرض، وكان الحسن يذهب إلى أن هذه الآية مدنية، لأنه كان يقول: فرضت الخمس بالمدينة. وقال الأكثرون: بل فرضت بمكة؛ وفي التحرير، اتفق المفسرون على أن الخمس داخلة في هذه الآية. وعن ابن عباس: ما ذكرت الخمس إلا فيها، وقدم الإمساء على الإصباح، كما قدم في قول {يولج الليل في النهار} والظلمات على النور، وقابل بالعشي الإمساء، وبالإظهار الإصباح، لأن كلاًّ منهما يعقب بما يقابله؛ فالعشي يعقبه الإمساء، والإصباح يعقبه الإظهار. ولما لم يتصرف من العشي فعل، لا يقال أعشى، كما يقال أمسى وأصبح وأظهر، جاء التركيب {وعشياً}. وقرأ عكرمة: حيناً تمسون وحيناً تصبحون، بتنوين حين، والجملة صفة حذف منها العائد تقديره: تمسون فيه وتصبحون فيه. ولما ذكر الإبداء والإعادة، ناسب ذكره: {يخرج الحي من الميت}، وتقدم الكلام على هذه الآية في آل عمران. {وكذلك}: أي مثل ذلك الإخراج، والمعنى: تساوي الإبداء والإعادة في حقه تعالى. وقرأ الجمهور: {تخرجون}، بالتاء المضمومة، مبنياً للمفعول؛ وابن وثاب وطلحة والأعمش: بفتح تاء الخطاب وضم الراء.
ثم ذكر تعالى آياته من بدء خلق الإنسان، آية آية، إلى حين بعثه من القبر فقال: {ومن آياته أن خلقكم من تراب}: جعل خلقهم من تراب، حيث كان خلق أباهم آدم من تراب. و{تنتشرون}: تتصرفون في أغراضكم بثم المقتضية المهلة والتراخي. ونبه تعالى على عظيم قدرته بخلق الإنسان من تراب، وهو أبعد الأشياء عن درجة الإحياء، لأنه بارد يابس، والحياة بالحرارة والرطوبة، وكذا الروح نير وثقيل، والروح خفيف وساكن، والحيوان متحرك إلى الجهات الست، فالتراب أبعد من قبول الحياة من سائر الأجسام. {من أنفسكم}: فيها قولاً {وخلق منها زوجها} إما كون حواء خلقت من ضلع آدم، وأما من جنسكم ونوعكم. وعلل خلق الأزواج بالسكون إليها، وهو الإلف. فمتى كان من الجنس، كان بينهما تألف، بخلاف الجنسين، فإنه يكون بينهما التنافر، وهذه الحكمة في بعث الرسل من جنس بني آدم.
ويقال: سكن إليه: مال، ومنه السكن: فعل بمعنى مفعول. {مودّة ورحمة}: أي بالأزواج، بعد أن لم يكن سابقة تعارف يوجب التواد. وقال مجاهد والحسن وعكرمة: المودة: النكاح، والرحمة: الولد، كنى بذلك عنهما. وقيل: مودّة للشابة، ورحمة للعجوز. وقيل: مودة للكبير، ورحمة للصغير. وقيل: هما اشتباك الرحم. وقيل: المودة من الله، والبغض من الشيطان.
{واختلاف ألسنتكم}: أي لغاتكم، فمن اطلع على لغات رأى من اختلاف تراكيبها أو قوانينها، مع اتحاد المدلول، عجائب وغرائب في المفردات والمركبات. وعن وهب: أن الألسنة اثنان وسبعون لساناً، في ولد حام سبعة عشر، وفي ولد سام تسعة عشر، وفي ولد يافث ستة وثلاثون. وقيل: المراد باللغات: الأصوات والنغم. وقال الزمخشري: الألسنة: اللذات وأجناس النطف وأشكاله. خالف عز وجل بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس واحد، ولا جهارة، ولا حدة، ولا رخاوة، ولا فصاحة، ولا لكنة، ولا نظم، ولا أسلوب، ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله. انتهى. {وألوانكم}: السواد والبياض وغيرهما، والأنواع والضروب بتخطيط الصور، ولولا ذلك الاختلاف، لوقع الالتباس وتعطلت مصالح كثيرة من المعاملات وغيرها. وفيه آية بينة، حيث فرعوا من أصل واحد، وتباينوا في الأشكال على كثرتهم. وقرأ الجمهور: {للعالمين}، بفتح اللام، لأنها في نفسها آية منصوبة للعالم. وقرأ حفص وحماد بن شعيب عن أبي بكر، وعلقمة عن عاصم، ويونس عن أبي عمرو: بكسر اللام، إذ المنتفع بها إنما هم أهل العلم، كقوله: {وما يعقلها إلا العالمون} والظاهر أن {بالليل والنهار} متعلق {بمنامكم}، فامتن تعالى بذلك، لأن النهار قد يقام فيه، وخصوص من كل مشتغلاً في حوائجه بالليل. {وابتغاؤكم من فضله}: أي فيهما، أي في الليل والنهار معاً، لأن بعض الناس قد يبتغي الفعل بالليل، كالمسافرين والحراس بالليل وغيرهم.
وقال الزمخشري: هذا من باب اللف، وترتيبه: {ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم}، ولأنه فصل بين الفريقين الأولين بالقرينين الآخرين لأنهما زمانان، والزمان والواقع فيه كشيء واحد مع إعانة اللف على ذلك، ويجوز أن يراد {منامكم} في الزمانين، {وابتغاؤكم من فضله} فيهما. والظاهر هو الأول لتكرره في القرآن، وأسد المعاني ما دل عليه القرآن. وقال ابن عطية: وقال بعض المفسرين: في الكلام تقديم وتأخير، وهذا ضعيف، وإنما أراد أن ترتب النوم في الليل والابتغاء للنهار، ولفظ الآية لا يعطي ذلك. {ومن آياته يريكم البرق خوفاً}: إما أن يتعلق من آياته بيريكم، فيكون في موضع نصب، ومن لابتداء الغاية، أو يكون يريكم على إضمار أن، كما قال:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ***
برفع أحضر، والتقدير أن أحضر، فلما حذف أن، ارتفع الفعل، وليس هذا من المواضع التي يحذف منها أن قياساً، أو على إنزال الفعل منزلة المصدر من غير ما يسبكه له، كما قال الخليل في قول:
أريد لأنسى حبها ***
أي أرادني لأنسى حبها، فيكون التقدير في هذين الوجهين: ومن آياته إراءته إياكم البرق، فمن آياته في موضع رفع على أنه خبر المبتدأ. وقال الرماني: يحتمل أن يكون التقدير: ومن آياته يريكم البرق بها، وحذف لدلالة من عليها، كما قال الشاعر:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما *** أموات وأخرى أبتغي العيش أكدح
أي: فمنهما تارة أموات، ومن على هذه الأوجه الثلاثة للتبعيض. وانتصب {خوفاً وطمعاً} على أنهما مصدران في موضع الحال، أي خائفين وطامعين. وقيل: مفعول من أجله. وقال الزجاج: وأجازه الزمخشري على تقدير إرادة خوف وطمع، فيتحد الفاعل في العامل والمحذوف، ولا يصح أن يكون العامل يريكم، لاختلاف الفاعل في العامل والمصدر. وقال الزمخشري: المفعولون فاعلون في المعنى، لأنهم راؤون مكانه، فكأنه قيل: لجعلكم رائين البرق خوفاً وطمعاً. انتهى. وكونه فاعلاً، قيل: همزة التعدية لا تثبت له حكمه بعدها، على أن المسألة فيها خلاف. مذهب الجمهور: اشتراط اتحاد الفاعل، ومن النحويين من لا يشترطه. ولو قيل: على مذهب من يشترطه. أن التقدير: يريكم البرق فترونه خوفاً وطمعاً، فحذف العامل للدلالة، لكان إعراباً سائغاً واتحد فيها الفاعل. وقال الضحاك: خوفاً من صواعقه، وطمعاً في مطره. وقال قتادة: خوفاً للمسافر، وطمعاً للمقيم. وقيل: خوفاً أن يكون خلباً، وطمعاً أن يكون ماطراً. وقال الشاعر:
لا يكن برقك برقاً خلباً *** إن خير البرق ما العيث معه
وقال ابن سلام: خوفاً من البرد أن يهلك الزرع، وطمعاً في المطر أن يحييه. {ومن آياته أن تقوم}: أن تثبت وتمسك، مثل: وإذا أظلم عليهم قاموا: أي ثبتوا بأمره، أي بإرادته. وإذا الأولى للشرط، والثانية للمفاجأة جواب الشرط، والمعنى: أنه لا يتأخر طرفة عين خروجكم عن دعائه، كما يجيب الداعي المطيع مدعوه، كما قال الشاعر:
دعوت كليباً دعوة فكأنما *** دعوت قرين الطود أو هو أسرع
قرين الطود: الصدا، أو الحجران أيد هذا. والطود: الجبل. و{الدعوة}: البعث من القبور، و{من الأرض} يتعلق بدعاكم، و{دعوة}: أي مرة، فلا يحتاج إلى تكرير دعاءكم لسرعة الإجابة. وقيل: {من الأرض} صفة لدعوة. وقال ابن عطية: ومن عندي هنا لأنتهاء الغاية، كما يقول: دعوتك من الجبل إذا كان المدعو في الجبل. انتهى. وكون من لأنتهاء الغاية قول مردود عند أصحابنا. وعن نافع ويعقوب: أنهما وقفا على دعوة، وابتدآ من الأرض. {إذا أنتم تخرجون} علقاً من الأرض بتخرجون، وهذا لا يجوز، لأن فيه الفصل بين الشرط وجوابه، بالوقف على دعوة فيه إعمال ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها، وهو لا يجوز. وقال الزمخشري: وقوله: {إذا دعاكم} بمنزلة قوله: {يريكم} في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى، كأنه قال: ومن آياته قيام السموات والأرض، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاهم دعوة واحدة: يا أهل القبور أخرجوا، وإنما عطف هذا على قيام السموات والأرض بثم، بياناً لعظيم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله، وهو أن يقول: يا أهل القبور قوموا، فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر.
انتهى. وقرأ حمزة والكسائي: تخرجون، بفتح التاء وضم الراء؛ وباقي السبعة: بضمها وفتح الراء.
وبدأ أولاً من الآيات بالنشأة الأولى، وهي خلق الإنسان من التراب، ثم كونه بشراً منتشراً، وهو خلق حي من جماد، ثم أتبعه بأن خلق له من نفسه زوجاً، وجعل بينهما تواد، وذلك خلق حي من عضو حي. وقال: {لقوم يتفكرون}، لأن ذلك لا يدرك إلا بالفكر في تأليف بين شيئين لم يكن بينهما تعارف، ثم أتبعه بما هو مشاهد للعالم كلهم، وهو خلق السموات والأرض، واختلاف اللغات والألوان، والاختلاف من لوازم الإنسان لا يفارقه. وقال: {للعالمين}، لأنها آية مكشوفة للعالم، ثم أتبعه بالمنام والابتغاء، وهما من الأمور المفارقة في بعض الأوقات، بخلاف اختلاف الألسنة والألوان. وقال: {لقوم يسمعون}، لأنه لما كان من أفعال العبادة قد يتوهم أنه لا يحتاج إلى مرشد، فنبه على السماع، وجعل البال من كلام المرشد. ولما ذكر عرضيات الأنفس اللازمة والمفارقة، ذكر عرضيات الآفاق المفارقة من إراءة البرق وإنزال المطر، وقدمها على ما هو من الأرض، وهو الإتيان والإحياء، كما قدم السموات على الأرض، وقدم البرق على الإنزال، لأنه كالمبشر يجيء بين يدي القادم. والأعراب لا يعلمون البلاد المعشبة، إن لم يكونوا قد رأوا البروق اللائحة من جانب إلى جانب. وقال: {لقوم يعقلون}، لأن البرق والإنزال ليس أمراً عادياً فيتوهم أنه طبيعة، إذ يقع ذلك ببلدة دون أخرى، ووقتاً دون وقت، وقوياً وضعيفاً، فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار، فقال: هو آية لمن عقل بأن لم يتفكر تفكراً تاماً.
ثم ختم هذه الآيات بقيام السموات الأرض، وذلك من العوارض اللازمة، فإن كلاًّ من السماء والأرض لا يخرج عن مكانه، فيتعجب من وقوف الأرض وعدم نزولها، ومن علو السماء وثباتها من غير عمد. ثم أتبع ذلك بالنشأة الأخرى، وهي الخروج من الأرض، وذكر تعالى من كل باب أمرين: من الأنفس خلقكم وخلق لكم، ومن الآفاق السماء والأرض، ومن لوازم الإنسان اختلاف الألسنة واختلاف الألوان، ومن خواصه المنام والابتغاء، ومن عوارض الآفاق البرق والمطر، ومن لوازمه قيام السماء وقيام الأرض.


{من في السموات والأرض}: عام في كونهم تحت ملكه وقهره. وقال الحسن: {قانتون}: قائمون بالشهادة على وحدانيته، كما قال الشاعر:
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد
وقال ابن عباس: مطيعون، أي في تصريفه، لا يمتنع عنه شيء يريد فعله بهم، من حياة وموت وصحة ومرض، فهي طاعة الإرادة لا طاعة العبادة. وقيل: قائمون يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين. وإذا حمل القنوت على الإخلاص، كما قال ابن جبير، أو على الإقرار بالعبودية، أو قانتون من ملك ومؤمن، لأن كل عام مخصوص. {وهو أهون عليه}: أي والعود أهون عليه، وليست أهون أفعل تفضيل، لأنه تفاوت عند الله في النشأتين: الإبداء والإعادة، فلذلك تأوله ابن عباس والربيع بن خيثم على أنه بمعنى هين، وكذا هو في مصحف عبد الله. والضمير في عليه عائد على الله. وقيل: أهون للتفضيل، وذلك بحسب معتقد البشر وما يعطيهم النظر في المشاهد من أن الإعادة في كثير من الأشياء أهون من البداءة، للاستغناء عن الروية التي كانت في البداءة؛ وهذا، وإن كان الاثنان عنده تعالى من اليسر في حيز واحد. وقيل: الضمير في عليه عائد على الخلق، أي والعود أهون على الخلق: بمعنى أسرع، لأن البداءة فيها تدريج من طور إلى طور إلى أن يصير إنساناً، والإعادة لا تحتاج إلى هذه التدريجات في الأطوار، إنما يدعوه الله فيخرج، فكأنه قال: وهو أيسر عليه، أي أقصر مدة وأقل انتقالاً. وقيل: المعنى وهو أهون على المخلوق، أي يعيد شيئاً بعد إنشائه، فهذا عرف المخلوقين، فكيف تنكرون أنتم الإعادة في جانب الخالق؟ قال ابن عطية: والأظهر عندي عود الضمير على الله تعالى، ويؤيده قوله تعالى: {وله المثل الأعلى}، كما جاء بلفظ فيه استعاذة واستشهاد بالمخلوق على الخالق، وتشبيه بما يعهده الناس من أنفسهم، خلص جانب العظمة، بأن جعل له المثل الأعلى الذي لا يتصل به، فكيف ولا تمثال مع شيء؟ انتهى. وقال الزمخشري: فإن قلت: لم أخرت الصلة في قوله: {وهو أهون عليه}، وقدمت في قوله: {هو علي هين} قلت: هنالك قصد الاختصاص، وهو تجبره، فقيل: وهو على هين، وإن كان مستصعباً عندك، وإن تولد بين هرم وعاقر. وأما هنا لا معنى للاختصاص، كيف والأمر مبني على ما يعقلون من أن الإعادة أسهل من الابتداء؟ فلو قدمت الصلة لتغير المعنى. انتهى. ومبنى كلامه على أن تقديم المعمول يؤذن بالاختصاص، وقد تكلمنا معه في ذلك، ولم نسلمه في قوله: {إياك نعبد} {وله المثل الأعلى}، قيل: هو متعلق بما قبله، قاله الزجاج، وهو قوله: {وهو أهون عليه}؛ قد ضربه لكم مثلاً فيما يسهل أو يصعب.
وقيل: بما بعده من قوله: {ضرب لكم مثلاً من أنفسكم}. وقيل: المثل: الوصف الأرفع الأعلى الذي ليس لغيره مثله، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيء من إنشاء وإعادة وغيرهما. {وهو العزيز}: أي القاهر لكل شيء، الحكيم الذي أفعاله على مقتضى حكمته. وعن مجاهد: المثل الأعلى قوله: {لا إله إلاّ الله} وله الوصف بالوحدانية، ويؤيده قول: {ضرب لكم}.
وقال ابن عباس وغيره: بين تعالى أمر الأصنام وفساد معتقد من يشركها بالله، بضربه هذا المثل، ومعناه: أنكم أيها الناس، إذا كان لكم عبيد تملكونهم، فإنكم لا تشركونهم في أموالكم ومهم أموركم، ولا في شيء على جهة استواء المنزلة، وليس من شأنكم أن تخافوهم في أن يرثوا أموالكم، أو يقاسمونكم إياها في حياتكم، كما يفعل بعضكم ببعض؛ فإذا كان هذا فيكم، فكيف تقولون: إن من عبيده وملكه شركاء في سلطانه وألوهيته وتثبتون في جانبه ما لا يليق عندكم بجوانبكم؟ وجاء هذا المعنى في معرض السؤال والتقرير. وقال السدي: كانوا يورثون آلهتهم، فنزلت. وقيل: لما نزلت، قال أهل مكة: لا يكون ذلك أبداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلم يجوز لربكم»؟ومن في: {من أنفسكم} لابتداء الغاية، كأنه قال: أخذ مثلاً، وافترى من أقرب شيء منكم، وهو أنفسكم، ولا يبعد. ومن في: {مما ملكت} للتبعيض، ومن في: {من شركاء} زائدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. يقول: ليس يرضى أحد منكم أن يشركه عبده في ماله وزوجته وما يختص به حتى يكون مثله، فكيف ترضون شريكاً لله، وهو رب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد؟
وقال أبو عبد الله الرازي: وبين المثل والممثل به مشابهة ومخالفه. فالمشابهة معلومة، والمخالفة من وجوه: قوله: {من أنفسكم}: أي من نسلكم، مع حقارة الأنفس ونقصها وعجزها، وقاس نفسه عليكم مع عظمتها وجلالتها وقدرتها. وقوله: {مما ملكت أيمانكم}: أي عبيدكم، والملك ما قبل النقل بالبيع، والزوال بالعتق، ومملوكه تعالى لا خروج له عن الملك. فإذا لم يجز أن يشرككم مملوككم، وهو مثلكم من جميع الوجوه ومثلكم في الآدمية، حالة الرق، فكيف يشرك الله مملوكه من جميع الوجوه المباين له بالكلية؟ وقوله: {فيما رزقناكم}: يعني أن الميسر لكم في الحقيقة إنما هو الله ومن رزقه حقيقة، فإذا لم يجز أن يشرككم فيما هو لكم من حيث الاسم، فكيف يكون له تعالى شريك فيما له من جهة الحقيقة؟ انتهى، وفيه بعض تلخيص. و{شركاء} في موضع رفع بالابتداء، و{فيما رزقناكم} متعلق به، و{لكم} الخبر، و{مما ملكت} في موضع الحال، لأنه نعت نكرة تقدم عليها وانتصب على الحال، والعامل فيها العامل في الجار والمجرور، والواقع خبراً، وهو مقدر بعد المبتدأ. وما في فيما {رزقناكم} واقعة على النوع، والتقدير: هل شركاء فيما رزقناكم كائنون من النوع الذي ملكته أيمانكم كائنون لكم؟ ويجوز أن يتعلق لكم بشركاء، ويكون مما رزقناكم في موضع الخبر، كما تقول: لزيد في المدينة مبغض، فلزيد متعلق بمبغض الذي هو مبتدأ، وفي المدينة الخبر، و{فأنتم فيه سواء} جملة في موضع الجواب للاستفهام المضمن معنى النفي، وفيه متعلق بسواء، و{تخافونهم} خبر ثان لأنتم، والتقدير: فأنتم مستوون معهم فيما رزقناكم، تخافونهم كما يخاف بعضكم بعضاً أيها السادة.
والمقصود نفي الشركة والإستواء والخوف، وليس النفي منسحباً على الجواب وما بعده فقط، كأحد وجهي ما تأتينا فتحدثنا، أي ما تأتينا فتحدثنا، إنما تأتي ولا تحدث، بل هو على الوجه الآخر، أي ما تأتينا فكيف تحدثنا؟ أي ليس منك إتيان فلا يكون حديث. وكذلك هذا ليس لهم شريك، فلا استواء ولا خوف. وقرأ الجمهور: ، بالنصب، أضيف المصدر إلى الفاعل؛ وابن أبي عبيدة: بالرفع، أضيف المصدر للمفعول، وهما وجهان حسنان، ولا قبح في إضافة المصدر إلى المفعول مع وجود الفاعل.
{كذلك}: أي مثل ذلك التفصيل، {نفصل الآيات}: أي نبينها، لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها، لأنه بمنزلة التصوير والتشكيل لها. ألا ترى كيف صور الشرك بالصورة المشوهة؟ وقرأ الجمهور: نفصل، بالنون، حملاً على رزقناكم؛ وعباس عن ابن عمر: بياء الغيبة، رعياً لضرب، إذ هو مسند للغائب. وذكر بعض العلماء في هذه الآية دليلاً على صحة أصل الشركة بين المخلوقين، لافتقار بعضهم إلى بعض، كأنه يقول: الممتنع والمستقبح شركة العبيد لساداتهم؛ أما شركة السادات بعضهم لبعض فلا يمتنع ولا يستقبح. والإضراب ببل في قوله: {بل اتبع} جاء على ما تضمنته الآية، إذ المعنى: ليس لهم حجة ولا معذرة فيما فعلوا من إشراكهم بالله، بل ذلك بمجرد هوى بغير علم، لأنه قد يكون هوى للإنسان، وهو يعلم. و{الذين ظلموا}: هم المشركون، اتبعوا أهواءهم جاهلين هائمين على أوجههم، لا يرغمهم عن هواهم علم، إذ هم خالون من العلم الذي قد يردع متبع الهوى. {فمن يهدي من أضل الله}: أي لا أحد يهدي من أضله الله، أي هؤلاء ممن أضلهم الله، فلا هادي لهم. وقال الزمخشري: من أضل الله: من خذله الله ولم يلطف به، لعلمه أنه ممن لا لطف له ممن يقدر على هداية مثله. {وما لهم من ناصرين}: دليل على أن المراد بالإضلال الخذلان. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال.
{فأقم وجهك للدين}: فقوم وجهك له وعدله غير ملتفت، وهو تمثيل لإقباله على الدين واستقامته عليه وثباته واهتمامه بأسبابه. فإن من اهتم بالشيء، عقد عليه طرفه وقوم له وجهه مقبلاً به عليه، والدين دين الإسلام. وذكر الوجه، لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفه. و{حنيفاً}: حال من الضمير في أقم، أو من الوجه، أو من الدين، ومعناه: مائلاً عن الأديان المحرفة المنسوخة.
{فطرة الله}: منصوب على المصدر، كقوله: {صبغه الله} وقيل: منصوب بإضمار فعل تقديره: التزم فطرة الله. وقال الزمخشري: الزموا فطرة الله، أو عليكم فطرة الله. وإنما أضمرت على خطاب الجماعة لقوله: {منيبين إليه}، ومنيبين حال من الضمير في الزموا. وقوله: {وأقيموا}، {ولا تكونوا}، معطوف على هذا المضمر. انتهى. وقيل: {فأقم وجهك}، المراد به: فأقيموا وجوهكم، وليس مخصوصاً بالرسول وحده، وكأنه خطاب لمفرد أريد به الجمع، أي: فأقم أيها المخاطب، ثم جمع على المعنى، لأنه لا يراد به مخاطب واحد. فإذا كان هذا، فقوله: {منيبين}، {وأقيموا}، {ولا تكونوا} ملحوظ فيه معنى الجمع. وقول الزمخشري: أو عليكم فطرة الله لا يجوز، لأن فيه حذف كلمة الإغراء، ولا يجوز حذفها، لأنه قد حذف الفعل وعوض عليك منه. فلو جاء حذفه لكان إجحافاً، إذ فيه حذف العوض والمعوض منه.
والفطرة، قيل: دين الإسلام، والناس مخصوصون بالمؤمنين. وقيل: العهد الذي أخذه الله على ذرية آدم حين أخرجهم نسماً من ظهره ورجح الحذاق. إنها القابلية التي في الطفل للنظر في مصنوعات الله، والاستدلال بها على موجده، فيؤمن به ويتبع شرائعه، لكن قد تعرض له عوارض تصرفه عن ذلك، كتهويد أبويه له، وتنصيرهما، إغواء شياطين الإنس والجن.
{لا تبديل لخلق الله}: أي لا تبديل لهذه القابلية من جهة الخالق. وقال مجاهد، وابن جبير، والضحاك، والنخعي، وابن زيد: لا تبديل لدين الله، والمعنى: لمعتقدات الأديان، إذ هي متفقة في ذلك. وقال الزمخشري: أي ما ينبغي أن تبدل تلك الفطرة أو تغير. وقال ابن عباس: لا تبديل لقضاء الله بسعادتهم وشقاوتهم، وقيل: هو نفي معناه: النهي، أي لا تبدلوا ذلك الدين. وقيل: {لا تبديل لخلق الله} بمعنى: الواحدانية مترشحة فيه، لا تغير لها، حتى لو سألته: من خلق السموات والأرض؟ تقول: الله. ويستغرب ما روي عن ابن عباس أن معنى {لا تبديل لخلق الله}: النهي عن خصاء الفحول من الحيوان. وقول من ذهب إلى أن المعنى في هذه الجملة ألجأ على الكفرة، اعترض به أثناء الكلام، كأنه يقول: أقم وجهك للدين الذي من صفته كذا وكذا، فإن هؤلاء الكفرة ومن خلق الله لهم الكفر، و{لا تبديل لخلق الله}: أي أنهم لا يفلحون ذلك الذي أمرت بإقامة وجهك له، هو الدين المبالغ في الاستقامة. والقيم: بياء مبالغة، من القيام، بمعنى الاستقامة، ووزنه فعيل، أصله قيوم كيد، اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء فيها، وهو بناء مختص بالمعتل العين، لم يجئ منه في الصحيح إلا بيئس وصيقل علم لامرأة.
{منيبين}: حال من {الناس}، ولا سيما إذا أريد بالناس: المؤمنون، أو من الضمير في: الزموا فطرة الله، وهو تقدير الزمخشري، أو من الضمير في: {فأقم}، إذ المقصود: الرسول وأمته، وكأنه حذف معطوف، أي فأقم وجهك وأمتك.
وكذا زعم الزجاج في: {يا أيها النبي إذا طلقتم} أي يا أيها النبي والناس، ودل على ذلك مجيء الحال في {منيبين} جمعاً، وفي {إذا طلقتم} جاء الخطاب فيه وفي ما بعده. جمعاً، أو على خبر كان مضمرة، أي كونوا منيبين، ويدل عليه قوله بعد {ولا تكونوا}، وهذه احتمالات منقولة كلها. {من المشركين}: من اليهود والنصارى، قاله قتادة. وقال ابن زيد: هم اليهود؛ وعن أبي هريرة وعائشة: أنهم أهل القبلة، ولفظة الإشراك على هذا تجوز بأنهم صاروا في دينهم فرقاً. والظاهر أن المشركين: كل من أشرك، فيدخل فيهم أهل الكتاب وغيرهم. و{من الذين}: بدل من المشركين، {فرقوا دينهم}: أي دين الإسلام وجعلوه أدياناً مختلفة لاختلاف أهوائهم. {وكانوا شيعاً}: كل فرقة تشايع إمامها الذي كان سبب ضلالها. {كل حزب}: أي منهم فرح بمذهبه مفتون به. والظاهر أن {كل حزب} مبتدأ و{فرحون} الخبر. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون {من الذين} منقطعاً مما قبله ومعناه: من المفارقين دينهم. كل حزب فرحين بما لديهم، ولكنه رفع فرحون على الوصف لكل، كقوله:
وكل خليل غير هاضم نفسه ***
قدر أولاً فرحين مجرورة صفة لحزب، ثم قال: ولكنه رفع على الوصف لكل، لأنك إذا قلت: من قومك كل رجل صالح، جاز في صالح الخفض نعتاً لرجل، وهو الأكثر، كقوله:
جادت عليه كل عين ترة *** فتركن كل حديقة كالدرهم
وجاز الرفع نعتاً لكل، كقوله:
وعليه هبت كل معصفة *** هوجاء ليس للبها دبر
يرفع هو جاء صفة لكل.

1 | 2 | 3